الشعب مصدر الشرعية.. وأصوات حضرموت تكشف عمق الأزمة

أماني باخريبة
منذ فجر التاريخ السياسي الحديث قامت النظم الديمقراطية والدساتير المعاصرة على قاعدة أساسية لا خلاف عليها الشعب هو مصدر السلطات هذه ليست مجرد عبارة دستورية تدرج في النصوص بل مبدأ جوهري يقوم عليه مفهوم الدولة الحديثة، حيث يفترض أن تكون السلطة أداة لخدمة المواطنين لا وسيلة للهيمنة عليهم. لكن، في اليمن نشهد اليوم مفارقة صارخة.
إذ يبدو أن بعض المسؤولين يتعاملون مع السلطة وكأنها ملكية خاصة غير قابلة للنقد أو المراجعة متجاهلين أن الشعب هو الذي يملك الشرعية وهو الذي يستطيع أن يسحبها متى شاء.
تُعد المظاهرات التي تشهدها حضرموت اليوم أبلغ دليل على هذا الواقع المعقد فالغضب الشعبي واقتحام مبنى السلطة المحلية ليس وليد لحظة عابرة بل نتيجة تراكمات من الإهمال وغياب الخدمات الأساسية وتدهور الأوضاع الاقتصادية فالمواطن في حضرموت كما في بقية مناطق سيطرة الحكومة الشرعية يعيش أزمة متفاقمة في كل تفاصيل حياته اليومية انقطاع الكهرباء لساعات طويلة تدهور العملة المحلية وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق. أمام هذا الواقع وجد الشارع نفسه مضطرا للخروج مطالبا بحقوقه لا ترفا بل دفاعًا عن أبسط مقومات الحياة.
لكن بدلا من الاستماع إلى صوت الناس والعمل على معالجة جذور المشكلة نرى السلطة في كثير من الأحيان تلجأ إلى أساليب القمع وتوظيف القانون بشكل انتقائي لخدمة مصالحها وكأنها تعلن أن إرادة الشعب لا قيمة لها هنا يصبح السؤال مشروعا ما قيمة الشرعية إذا كان الشارع صاحب الكلمة العليا قد سحب ثقته من هذه القيادات؟
الدساتير اليمنية مثلها مثل بقية دساتير العالم تنص على أن الشعب هو مصدر السلطات. هذا المبدأ يفترض أن يترجم إلى واقع ملموس بحيث تكون الحكومة خادمة للشعب ومسؤولة أمامه وخاضعة لمساءلته و لكن ما نراه اليوم في اليمن يعكس انقلابا على هذه القاعدة
الشرعية كما يعرفها فقه القانون الدستوري، ليست صكا أبديا بل عقدا اجتماعيًا متجددا بين الشعب والسلطة.
فإذا أخلّت السلطة بواجباتها أو تجاهلت إرادة الناس فإنها تفقد هذا العقد وتصبح غير شرعية مهما تمسكت بالقوانين الشكلية أو دعم القوى الخارجية وفي هذا السياق يعد خروج الناس إلى المظاهرات كما يحدث اليوم في حضرموت تعبيرًا واضحًا عن سحب الثقة وعن رفض السياسات المتبعة وهو بمثابة استفتاء شعبي غير رسمي على فشل تلك القيادات.
قمع الاحتجاجات لا يوقف الحراك الشعبي بل يزيده اشتعالا. فالمواطن الذي يخرج ليطالب بالكهرباء أو بالمياه أو بتحسين الوضع الاقتصادي.
انه لا يفعل ذلك بدافع سياسي بحت بل من أجل حقه في العيش الكريم. وعندما يقابل هذا المواطن بالترهيب والعنف تتولد قناعة راسخة بأن الدولة لم تعد حامية له بل خصما يتربص به.
هذا النهج يؤدي مع الوقت إلى تآكل الثقة بين المواطن والدولة ويحول مطالب الإصلاح التدريجية إلى مطالب تغيير جذرية.
وهو ما نشهده بالفعل في مناطق عدة من اليمن حيث لم تعد الشعارات تقتصر على تحسين الخدمات بل تجاوزتها إلى المطالبة بإعادة النظر في طبيعة الحكم ذاته وإيجاد منظومة جديدة تستجيب لإرادة الناس.
ما يحدث في حضرموت اليوم ليس معزولا عن المشهد اليمني العام بل هو انعكاس واضح لفشل الدولة في إدارة الملفات الاقتصادية والخدمية. حضرموت رغم كونها أغنى المحافظات بالموارد الطبيعية من نفط وغاز وثروات معدنية تعاني من تدهور البنية التحتية وانعدام العدالة في توزيع الثروات وتفاقم البطالة والفقر.
هذا الوضع جعلها بؤرة احتجاجات متكررة تذكر الجميع بأن الصبر الشعبي له حدود وأن السكوت عن الحقوق لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية.
اليمن اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الشعب والحاكم. على المسؤول أن يدرك أن منصبه ليس امتيازا شخصيا بل تكليف من الشعب لخدمته. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن الشرعية تمنح وتسحب وفقا لرضا الناس وأن أي محاولة لفرض النفوذ بالقوة أو تجاهل المطالب الشعبية لن تؤدي إلا إلى مزيد من الانهيار.
إن ما تحتاجه اليمن وحضرموت تحديدا، هو مشروع وطني يعيد الثقة بين المواطن والدولة. مشروع يضع مصلحة الناس فوق كل اعتبار ويعيد الاعتبار للدستور كمرجعية حقيقية لا مجرد وثيقة شكلية. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال آليات واضحة للمحاسبة وشفافية في إدارة الموارد، وإرادة سياسية صادقة للإصلاح.
لقد أثبت التاريخ أن أي سلطة تتجاهل إرادة شعوبها تمهد لسقوطها الحتمي ما يحدث واليوم حضرموت واليمن تقفان على مفترق طرق مشابه. الرسالة واضحة: الإصلاح أو الانهيار
على المسؤولين أن يدركوا أن التمسك الأعمى بالمناصب لن يحميهم من موجة شعبية تتنامى كل يوم، وأن الاستجابة لمطالب المواطن ليست خيارا سياسيا بل واجب دستوري وشرعي. إن تجاهل صوت الشارع لن يطفئه بل سيزيده اشتعالا حتى يتحول إلى نار لا تبقي ولا تذر.