من البئر إلى البارود: كيف غيّر النفط شكل السلطة وأربك العالم؟

بقلم:- رئيس المركز
في كل المجتمعات البشرية، تُبنى العلاقات بين الأفراد – سواء فيما بينهم أو بينهم وبين الحكام – على منظومتين أساسيتين: الاقتصاد والدين. فالفرد يسعى لكسب رزقه، ويحتاج الآخرين لتحقيق التكامل الاجتماعي، ومن هذا التفاعل نشأت الحاجة إلى نظام ينظم العلاقة داخل الجماعة، فظهرت الأسرة، ثم القبيلة، ثم الدولة.
وعلى مرّ التاريخ، تطورت السلطة كإطار تنظيمي لتلك العلاقات، وكان التوازن في العلاقة بين الحاكم والمحكوم يقوم على معادلة بسيطة: المواطن يعمل وينتج، والدولة تجمع الضرائب مقابل الخدمات والحماية. هذا التوازن، رغم هشاشته، كان يحفظ الحد الأدنى من الترابط، لأن الدولة كانت بحاجة دائمة إلى الناس لبقائها واستمرارها.
لكن هذا التوازن اختلّ تمامًا مع صعود ما يمكن تسميته بـ"الثروة السهلة"، والمقصود بها النفط والغاز. ثروات طبيعية لا تحتاج إلى مجتمع منتج، بل إلى حفارات وخطوط أنابيب وعقود بيع فقط. وهكذا، لم تعد الدولة بحاجة حقيقية إلى المواطن، فتحوّل من شريك إلى عبء يجب تطويعه أو تهميشه.
في الأنظمة الملكية التي تملك الأرض ومن عليها، كان الفلاح ضرورة لبقاء النظام، كما في الإقطاع الأوروبي. أما في الأنظمة النفطية، فالملك لا يحتاج إلا إلى بئر نفط. وبذلك أصبحت أدوات الدولة، لا سيما المال والدين والإعلام، موجهة بالكامل نحو إخضاع الجماهير، لا نحو تنميتها أو تمكينها.
في الدول ذات الكثافة السكانية العالية، تم توظيف الدين كأداة أساسية للضبط والسيطرة. أما في الدول الأقل سكانًا، فقد تكفّل المال بشراء الولاءات وشراء الصمت. ومع تسارع تدفق الأفكار وتداخل العالم، لم تبقَ هذه "العقيدة النفطية" حبيسة حدودها، بل تحوّلت إلى مشروع أيديولوجي عابر للحدود، يغذّي النزاعات ويموّل الحروب ويؤجّج الانقسامات.
ولم يكن هذا مجرد تحليل نظري، بل حقيقة اعترف بها وزير الخارجية القطري صراحةً: الأنظمة النفطية غذّت الفوضى في سوريا والعراق واليمن، سواء دفاعًا عن الداخل من انتقال أفكار التمرد، أو رغبةً في التوسع والسيطرة، ولو كان ذلك على حساب شعوب بأكملها.
وبينما امتصّت الدول المصدّرة للفكرة آثارها السلبية بفضل الوفرة المالية واحتكار الدين والإعلام، فإن الدول التي واجهتها دفعت الثمن باهظًا: انهيارات سياسية، دماء، وتمزّق مجتمعي. فالذي يملك المال والفكرة، يملك كذلك أدوات التصدير، والتأثير، والتدمير.
وفي عالم أصبح قرية صغيرة، لم يعد ممكنًا احتكار الفكرة أو منع انتقالها. لكن بينما تصدّعت شرعية الداخل، جرى توسيع النفوذ خارجيًا، وهكذا بدأ المال النفطي يتدخّل حتى في سياسات الدول الديمقراطية.
ففي فرنسا – على سبيل المثال – نشهد دعمًا واضحًا لليمين المتطرف (حزب لوبان) لمواجهة الإسلام السياسي، بعدما تراجعت قوى اليسار التي أُنهكت في الغرب، وتفككت في العالم العربي والإسلامي. ولم يتوقف الأمر عند حدود فرنسا، بل امتدّ إلى تمويل حملات انتخابية وصناعة تيارات فكرية لإنتاج "يمين شعبوي" عالمي، يغيّر شكل الديمقراطيات من الداخل، ليخدم مشاريع قمعية في العالم الثالث.
مشهد عبثي فعلاً: انحراف اقتصادي بدأ ببئر في صحراء، غيّر وجه العالم بأكمله. ترامب، مثلًا، الذي فشل في تنفيذ معظم وعوده، لم ينجح إلا في واحدة: زيارته للمنطقة وعقد صفقات بمئات المليارات، لم تُستخدم للتنمية، بل لمزيد من التحكم والتطويع.
لكن هل النفط لعنة دائمًا؟ لا. ففي دول مثل النرويج، التي تملك أكبر صندوق سيادي في العالم، أصبح النفط مصدر رفاهية وعدالة. كذلك في كندا وأمريكا، حيث استُخدمت الثروة لتعزيز الخدمات والمؤسسات. فما الذي يجعل من نفس المورد ثروة في مكان… ولعنة في مكان آخر؟
هل المشكلة في الفكرة الاقتصادية نفسها؟
أم في الطبيعة البشرية حين لا تُضبط بالمحاسبة والشفافية؟
أم أن ثمة خللًا أعمق، ثقافيًا أو حتى جينيًا، يجعلنا نعيد إنتاج الاستبداد مهما بدّلت الأدوات؟
في النهاية، يبقى السؤال الأخطر معلقًا:
هل كان النفط نعمة… أم لعنة أنجبت سلطات بلا شعوب، ودينًا بلا روح، وعالمًا يتآكل من الداخل؟