سياقات ومآلات المشهد السياسي الحضرمي

ماهر باوزير
المشهد السياسي في حضرموت لا يتحرك في فراغ، بل يتشكّل ضمن سياقات مركبة من التراكمات التاريخية، والوقائع الجغرافية، والتقاطعات الإقليمية والدولية، وفيما تتعدد المكونات وتتنافس القوى على تمثيل "الهوية الحضرمية"، تتجه البوصلة نحو مفترق طرق حاسم، فإما إعادة هندسة القرار المحلي بما يواكب طموحات الناس، أو البقاء في دائرة التبعية والتنازع على الفتات، إن استشراف المآلات لا يعني التنبؤ، بقدر ما يعني قراءة المعطيات القائمة واستخلاص الاتجاهات المحتملة، حضرموت ليست مجرد رقعة نفوذ تتقاذفها المشاريع، بل هي اليوم أمام فرصة نادرة لصياغة مشروعها السياسي الخاص، إن وجدت النخب الحضرميّة الشجاعة والإرادة الجماعية لتجاوز الصراع على الزعامة نحو بناء التوافقات الكبرى .
منذ ما قبل الدولة الجنوبية، كانت حضرموت رقعة مستقلة الهوية ومتصلة بالتاريخ، بثقافتها، وامتدادها التجاري، ونسيجها الاجتماعي المترابط، لكن هذا الامتياز التاريخي لم يُترجم إلى موقع فاعل في إدارة القرار السياسي، لا قبل الوحدة ولا بعدها، ومع التغيرات الكبرى التي أعقبت الأحداث المفصلية في اليمن، دخلت حضرموت في مرحلة فراغ إداري وسياسي، تزامنت مع صعود قوى جديدة تحت مسميات متعددة، أبرزها :
الحلف القبلي، والمرجعية، والجامع، وغيرها، هذا التعدد لم يكن بالضرورة دليلًا على التنوع، بل غالبًا ما كان نتيجة الفراغ المؤسسي والارتباك في تحديد المرجعية السياسية الحقيقية .
تتزايد الفجوة بين المكونات التي ترفع شعار تمثيل حضرموت وبين الشارع الحضرمي الذي ما زال مهمّشًا في صناعة القرار، وبين تمثيل قبلي مزعوم، وتفويض شعبي غائب، تبرز الحاجة العاجلة لآلية سياسية نزيهة تعيد تعريف العلاقة بين "الناطقين" و"المنطوق باسمهم" .
تشهد حضرموت اليوم حالة تنافس حاد بين قوى ومكونات متعددة، بعضها يتخذ الطابع القبلي، وبعضها يستند إلى ولاءات إقليمية، والبعض الآخر يحاول أن يرتدي عباءة التمثيل الشامل باسم الحضارم، هذا التنافس تجلى في صراع داخل الحلف نفسه، بين من يريد تمثيل القبيلة فقط، ومن يسعى لفرض نفسه ناطقًا باسم حضرموت كلها، كما ظهر التباين في مواقف الجامع الحضرمي، وتحولاته في علاقاته مع الأطراف الأخرى، أما المجلس الانتقالي الجنوبي، فلا يمارس "صمتًا مدروسًا" كما يُقال، بل يعاني من حالة تخبط وعدم إدراك لطبيعة الواقع الحضرمي، ويظهر ذلك في محاولاته استخدام القبيلة سياسيًا، وتوظيفها أحيانًا لضرب النسيج الاجتماعي .
في الخلفية، تتراجع الدولة الشرعية المركزية، وتفقد تدريجيًا أي نفوذ حقيقي في إدارة شؤون المحافظة، بينما تتقدم المشاريع المتداخلة بأجنداتها المختلفة، ولم تعد العلاقة مع التحالف العربي مجرد تنسيق عسكري أو دعم تنموي، بل تحوّلت إلى تداخلٍ معقّد في ملف النفوذ المحلي، إذ تسهم بعض القوى المنضوية تحت غطاء التحالف في موازنة مكونات على حساب أخرى، ما يُربك المشهد ويؤجج الاصطفافات .
ورغم بعض الدعوات نحو "الانفتاح الدولي" على حضرموت بمظهرها التنموي أو الاستثماري، إلا أن الحذر يظل واجبًا من تحوّل هذا الانفتاح إلى حالة تدويل ناعمة تُقزِّم القرار المحلي، وتفرغ السيادة من مضمونها، وتحيل حضرموت إلى مساحة عبور للمشاريع الخارجية .
أمام حضرموت اليوم ثلاثة احتمالات رئيسية في المرحلة المقبلة :
أولها، سيناريو التصعيد الداخلي بانفجار التباينات إلى حد المواجهة السياسية أو الأمنية، خاصة إذا تدخلت أطراف خارجية لتغذية هذا الصراع، ثانيها، سيناريو التوازن القلق، باستمرار الوضع على ما هو عليه دون حسم، ثالثها، وهو الأجدر بالعمل عليه، التوجه نحو توافقات حضرمية واسعة تعيد ضبط المشهد السياسي على قاعدة الشراكة والتمثيل العادل .