‏من الدوحة إلى الخليج.. حين يغدو الحليفُ أثقلَ كلفةً من الخصم

September 14, 2025 تم النشر في
مقالات الرأي
...

كتب عبدالله خالد الغانم
باحث استراتيجي كويتي

من الدوحة إلى الخليج.. حين يغدو الحليفُ أثقلَ كلفةً من الخصم

‏لم تكن الضربة التي استهدفت العاصمة القطرية حادثةً طارئة ولا مغامرةً خاطفة، بل كانت -بكل المقاييس- صفحة كاشفة من كتاب التحولات الجيوسياسية في الخليج.

‏فمنذ أسابيع سبقت العملية وتحديداً منذ تاريخ (٧ / أغسطس) كانت المعلومات تتسرّب بأن الضربة التي تستهدف خليل الحية في قطر، ليست سوى مسألة وقت.

‏وحين وقعت الضربة اليوم، تبيّن أن الخليج كلّه، لا قطر وحدها، أمام لحظة مراجعة مصيرية:
‏هل ما زال التحالف مع الولايات المتحدة يُمثّل مظلّة حماية، أم تحوّل إلى عبء استراتيجي قد تكون كلفته أثقل من كلفة الخصومة معها؟

‏(أولاً: في توصيف العملية وسياقها)

‏العملية لم تكن مفاجِئة، والأرجح أنّها لم تُدار عبر سلاح الجو الإسرائيلي بحد ذاته، بل عبر المنصّات الأميركية العاملة في المنطقة.

‏وهذا الاحتمال يفتح أبواب الأسئلة على مصاريعها:
‏• هل كانت إسرائيل مُنفِّذًا رمزياً بينما اليد الأميركية هي التي ضغطت الزناد؟
‏• وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يبقى من معنى (الضمانات الأمنية) التي تقوم عليها العلاقة الخليجية/الأميركية منذ عقود؟

‏هنا ندخل إلى قلب المفارقة:
‏التحالف الذي صُمّم ليحمي دول مجلس التعاون، صار هو ذاته المنصّة التي استُهدفت منها أحد دول المجلس.

‏(ثانيًا: في معركة الصورة والتمويه)

‏الحروب الحديثة لا تُخاض بالقنابل وحدها، بل بالصور والسرديات.
‏ومن هنا تبدو المعركة على رواية ما جرى لا تقل خطورة عن الضربة ذاتها.
‏إنّ الإعلان -ولو تكتيكياً- عن (مقتل القيادات المستهدفة) قد يمنحهم غطاءً للانسحاب إلى برّ الأمان.
‏ثم إنّ إعادة ظهورهم لاحقًا، مُصوَّرين في مكان آمن خارج قطر، ستقلب موازين السردية رأسًا على عقب: من عملية اغتيال ناجحة إلى هزيمة استخباراتية مدوّية تُظهر أن اليد التي امتدّت لم تبلغ هدفها.

‏إنّ أخطر ما يواجه العدو ليس فشل الصاروخ في إصابة الهدف، بل نجاح الخصم في تحويل ذلك الفشل إلى (رواية انتصار) تُتداول أمام الرأي العام.

‏(ثالثًا: في مسار الانتقال الآمن)

‏تركيا تبرز هنا كوجهة طبيعية.
‏فهي ليست مجرد ملاذ آمن، بل إطار سياسي قادر على منح القيادات الناجية مظلة تفاوضية وإعلامية توازي الحماية الأمنية.
‏إن انتقالهم إليها يعني إدخال لاعب إقليمي جديد إلى المعادلة، وتوسيع نطاق الاشتباك السياسي من (قطر – إسرائيل) إلى (تركيا – إسرائيل – أميركا) بما يعيد تشكيل الطاولة الاستراتيجية برمّتها.

‏(رابعًا: في الردّ الأجدى)

‏قد يُغري البعض الانفعال بردّ عسكري مباشر، لكن الردّ الأشد وقعًا هو ذاك الذي يبرهن فشل العملية في تحقيق غايتها.
‏بقاء القيادات على قيد الحياة، وظهورهم علنًا، هو أكبر صفعة استخباراتية يمكن توجيهها للعدو، وأمضى سلاح في مواجهة الحملة.
‏إنّ الانتصار هنا ليس في عدد الصواريخ المضادة، بل في القدرة على إظهار عجز الخصم أمام الرأي العام الدولي والإقليمي.

‏(خامسًا: في مراجعة الضمانات الخليجية)

‏الدرس الأعمق يتجاوز قطر وحدها:
‏• إذا كانت المظلة الأميركية قادرة على التحوّل إلى أداة استهداف، فما جدوى الاعتماد الأحادي عليها؟
‏• أليس من الحكمة أن يشرع الخليج في بناء تنويع استراتيجي لمصادر أمنه؟

‏وهنا يبرز خيار (الشراكة الدفاعية مع باكستان) كخيار واقعي وواعد.
‏فالبنية البشرية والعسكرية الباكستانية قادرة على تشغيل منظومات دفاع جوي متقدّمة مثل (HQ-19) الصينية، بما يمنح الخليج استقلالية ردعية تكسر احتكار واشنطن لسماء المنطقة.

‏ختاماً: لقد كشفت الضربة على الدوحة أن ميزان العلاقة مع واشنطن بات مقلوبًا:
‏فثمن الصداقة صار مرشّحًا لأن يكون أثقل من ثمن العداوة.

‏إنّ الردّ الحقيقي ليس في الشجب ولا في البيانات المكرورة، بل في:
‏1) تأمين القيادات المستهدفة وتحويل نجاتهم إلى رواية انتصار.
‏2) إعادة صياغة الشراكات الأمنية، والانفتاح على بدائل باكستانية/صينية تكسر الاحتكار الأميركي.
‏3) إدخال تركيا لاعبًا داعمًا في معادلة الأمان السياسي والإعلامي.

‏إننا -كخليج- أمام لحظة فارقة:
‏إمّا أن نستمر مقيّدين باعتبارات منظومة أمنية باتت تشكّل خطرًا محتملاً علينا، أو أن نعيد هندسة أمننا بأدوات جديدة تجعل من سمائنا سماءً عصيّة على الاختراق، ومن تحالفاتنا شبكة متوازنة تردّ الخطر بدل أن تجلبه.