(واكون يوساي) “روح يابانية، معرفة غربية”

September 30, 2025 تم النشر في
مقالات الرأي
...

   هل ستستلهم التجربة لنهضة حضرموت ؟

حسين باراس

المقدمة

في صباح 10 مارس عام 1905، وبالقرب من مدينة موكدن في منشوريا، وقف الجنرال المارشال ماركيز أوياما إيواو رافعًا راية النصر على القوات الروسية بقيادة الجنرال أليكسي نيكولا ييفتش كورباكتين. لم يكن هذا المشهد مجرد انتصار عسكري في معركة كبرى، بل كان إعلانًا مدوّيًا للعالم أن قوة آسيوية استطاعت لأول مرة في العصر الحديث أن تهزم إمبراطورية أوروبية عظمى.
كان هذا الحدث صدمة حضارية قلبت الموازين ورسالة قوية مفادها أن آسيا لم تُخلق لتبقى تابعة، بل قادرة على صنع تاريخها إذا امتلكت أدواته. لكن السؤال الأهم: كيف وصلت اليابان إلى هذه اللحظة الفارقة؟
اليابان قبل التحديث العزلة الطويلة

حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت اليابان تعيش في عزلة شبه كاملة تحت حكم الشوغونات من أسرة توكوغاوا. استمرت سياسة ساكوكو (الانغلاق) أكثر من 220 عامًا، حيث مُنع اليابانيون من مغادرة البلاد، وحُصر التعامل الخارجي في نطاق محدود جدًا مع الصينيين والهولنديين في ميناء ناغاساكي.
كان النظام قائمًا على سلطة الشوغونات العسكرية، بينما ظل الإمبراطور رمزًا دينيًا وثقافيًا بلا نفوذ فعلي. كان المجتمع زراعيًا تقليديًا، الجيش قائمًا على الساموراي، والاقتصاد بدائيًا، في وقت كانت أوروبا تعيش ذروة الثورة الصناعية.
الصدمة البوابة السوداء
عام 1853، ظهرت على سواحل يوكوهاما سفن القبطان الأمريكي ماثيو بيري، المعروفة باسم "السفن السوداء" (كورو فُوني)، التي جسّدت بوضوح الفجوة الحضارية بين اليابان والعالم الصناعي.
لم يكن الهدف حربًا، بل فرض الانفتاح بالقوة عبر ما سُمي الدبلوماسية بالمدافع (Gunboat Diplomacy). أُجبرت اليابان على توقيع اتفاقية كاناغاوا (1854)، ثم اتفاقية هاريس (1858) التي منحت امتيازات مذلة للأجانب وفتحت الموانئ اليابانية للتجارة.
هزّت هذه الاتفاقيات اليابان من الداخل، وأظهرت ضعف النظام القديم وعجزه عن حماية البلاد، مما أجبر البلاد على إعادة النظر في سياساتها ومصيرها.
اسقوط الشوغونات وصعود ميجي
أمام هذه الإهانة، تبلورت حركات معارضة راديكالية أبرزها شعار "سونّو جوي" (احترموا الإمبراطور واطردوا البرابرة).
وفي عام 1868 تحقق التحول الكبير عبر إصلاح ميجي (Meiji Restoration):
سقوط حكم الشوغونات (الباكوفو).
استعادة الإمبراطور سلطاته وأصبح رمز الوحدة الوطنية.
بداية مشروع التحديث الشامل بقيادة حكومة جديدة.
لكن التحديات كانت هائلة: اقتصاد زراعي ضعيف، انقسامات اجتماعية، مقاومة شرسة من طبقة الساموراي، وخطر خارجي دائم بوقوع اليابان ضحية للاحتلال الأوروبي كما حدث للصين بعد حرب الأفيون.
الفصل الرابع: خطوات الإصلاح مشروع وطني شامل

  1. الإصلاح السياسي والإداري
    إلغاء الإقطاع (1871) وتوحيد البلاد تحت إدارة مركزية.
    إصدار دستور حديث عام 1889 مستوحى من النموذج الألماني.
    تأسيس برلمان (الدايت) لإظهار صورة سياسية عصرية أمام العالم.
  2. الإصلاح العسكري
    إلغاء امتيازات الساموراي وحظر حمل السيوف (1876).
    إقرار قانون التجنيد الإجباري (1873) لتشكيل جيش وطني.
    إرسال بعثات إلى أوروبا لاستلهام النظام البروسي.
  3. النهضة الصناعية
    إنشاء مصانع حكومية للنسيج والسفن والذخائر.
    بناء سكك حديدية وموانئ حديثة.
    بيع المصانع لاحقًا لعائلات تجارية قوية (الزايباتسو مثل ميتسوبيشي وميتسوي).
    التركيز على الصناعات التحويلية عالية الكفاءة لتجاوز ضعف الموارد.
  4. إصلاح التعليم والفكر
    فرض التعليم الابتدائي الإلزامي (1872).
    إنشاء جامعات حديثة مثل جامعة طوكيو.
    بعثة إيوكورا (1871–1873) التي جابت الغرب لنقل العلوم والتقنيات.
    ترجمة العلوم والقوانين والطب والهندسة.
    وهنا وُلد الشعار الخالد: (واكون يوساي) "روح يابانية، معرفة غربية"، أي أن اليابان ستأخذ العلوم والتقنية من الغرب، لكنها ستحافظ على روحها وهويتها الوطنية.
    الفصل الخامس: التغلب على العقبات
    استيعاب مقاومة الساموراي بإدماج بعضهم في الجيش أو الإدارة.
    مواجهة الفوضى الاقتصادية عبر تدخل الدولة المباشر ثم تمكين القطاع الخاص.
    الموازنة بين الأصالة والتجديد، بحيث لا تضيع الهوية ولا تتوقف النهضة.
    الفصل السادس: المقارنة مع تجربة مصر ومحمد علي
    الفروق الجوهرية
  5. هوية الحاكم وشرعيته:
    اليابان: الإمبراطور جزء من الشعب،متجذر في التاريخ، قراراته مقبولة.
    مصر: محمد علي حاكم غريب عن البلاد، إصلاحه هش ومقطوع الجذور.
  6. مؤسسية النهضة مقابل الفردية:
    اليابان: حركة وطنية مؤسسية، مشاريع مستمرة، نهضة قابلة للتجدد.
    مصر: ارتبطت النهضة بشخص محمد علي، وما إن انتهت سلطته ضعف المشروع.
  7. شمولية الإصلاح مقابل محدوديته:
    اليابان: إصلاح شامل اقتصادي، سياسي، عسكري، إداري، تعليمي.
    مصر: إصلاح محدود يتركز على الجيش وبعض القطاعات، ومعرض للانهيار أمام القوى الأجنبية.
  8. فلسفة "واكون يوساي":
    اليابان: أخذ العلم والتقنية، والحفاظ على الهوية الوطنية.
    مصر والعالم العربي: الانشغال بالجدالات الفكرية والفلسفية مع إهمال أدوات القوة العملية.
  9. عقلية الأحرار مقابل عقلية المهزومين:
    اليابان: عقلية الأحرار، اختيار ما يفيد وتجاهل ما يضعف.
    العالم العربي: عقلية المهزومين، تبنّي جدالات الغرب قبل تأسيس النهضة العملية.
    التجربة اليابانية والتجربة العربية: حينما تصنع الشعوب الفارق
    الخلاصة.
    كلا التغييرين، في مصر واليابان، حدثا في فترة زمنية متقاربة، وكانا استجابة مباشرة لصدمة قدوم السفن الغربية إلى شواطئ البلدين. في مصر كانت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، وفي اليابان كانت البعثات الأمريكية والأوروبية. لكن على الرغم من تشابه نقطة البداية، إلا أن مسار التجربتين ونتائجهما كان مختلفًا جذريًا: فبينما غرِق المصريون في تمجيد المحتل واعتبار نابليون "المحدث" الأول، خرج اليابانيون برؤية مختلفة أساسها أن التحدي ليس في القيم ولا في الحضارة، وإنما في العلم والمعرفة.

في مصر برز تيار فكري يرى أن التغيير يكمن في استيراد قيم الغرب وأفكاره، كما نجد في خطاب محمد عبده وغيره ممن تحدثوا عن "مسلمين بلا إسلام". أما في اليابان فقد ظهرت فكرة "الحرية بروح يابانية ومعرفة غربية" (واكون يوساي). هنا يتجلى الفارق.. الياباني لم ينكسر أمام صدمة الحداثة الغربية، بل أدرك أن لديه حضارة متجذرة لا ينقصها إلا الأدوات العلمية. بينما المصري ومن ورائه العرب ارتبكوا أمام هذا التصادم الحضاري إلى حد التفكير في استيراد القيم ذاتها، بدلًا من إدراك أن الخلل في أدوات القوة والمعرفة لا في المنظومة القيمية.
والنتيجة كانت واضحة: فقدت المجتمعات العربية قيمها الأصيلة ولم تحصل على العلم، فانهارت بين الاستلاب والانبهار، بينما تحولت اليابان إلى قوة عالمية وإمبراطورية صاعدة. أما عالمنا العربي فقد وقع تحت الاحتلال المباشر أو غير المباشر، وتحولت دوله إلى مستعمرات بائسة تجرّ عقدة النقص والهزيمة الحضارية حتى اليوم.
لماذا نجحت اليابان بينما فشلت مصر رغم البداية المتزامنة؟
من وجهة نظري، هناك عدة أسباب حاسمة:

  1. الطابع المؤسسي لا الفردي:
    التجربة اليابانية لم تكن مجرد إرادة فرد أو قرار شخص، بل كانت حركة مؤسساتية وطنية. صحيح أن الإمبراطور قاد عملية الإصلاح، لكنه لم يكن قائدًا معزولًا، بل كان جزءًا من حركة مجتمعية واسعة تحولت إلى ثورة شاملة تبنتها الدولة والشعب معًا. الإصلاح هنا لم يكن لحظة فردية بل كان مشروعًا جماعيًا. بينما في مصر ارتبط المشروع النهضوي بشخص محمد علي وخلفائه، مما جعله هشًا وسهل الانكسار مع أي تغيير سياسي أو خارجي.
  2. الشرعية التاريخية للقيادة:
    الإمبراطور الياباني كان تجسيدًا للهوية الوطنية اليابانية، يتحدث لغتهم ومن صلبهم، ويمثل امتدادًا عريقًا لنظام حكم متجذر. أما في مصر، فالملك كان دخيلًا حديث العهد بالبلاد، بلا امتداد تاريخي ولا عمق شعبي. ومن هنا كانت شرعية الإصلاح في اليابان قوية الجذور، بينما في مصر كانت هشة مرتبطة بالسلطة القائمة لا بالشعب.
  3. الإصلاح الشامل لا الجزئي:
    اليابان لم تختزل الإصلاح في مجال أو اثنين، بل قامت بإصلاح اقتصادي وسياسي وعسكري وتعليمي وإداري متكامل الأركان. لقد أدرك اليابانيون أن النهضة لا تتحقق إلا كمنظومة متكاملة. أما في مصر فقد اقتصر الإصلاح على بعض المجالات المحدودة، وغاب التكامل الذي يحول النهضة إلى مشروع وطني شامل.
  4. وضوح البوصلة في الاستفادة من الغرب:
    اليابان صاغت شعارها الشهير: "روح يابانية، معرفة غربية". أي أن جوهرها الحضاري بقي يابانيًا، بينما أخذت من الغرب أدوات العلم والتقنية والقوة. أما النخب في مصر والعالم العربي فقد انجرفت إلى العكس: استيراد القيم والأفكار الفلسفية والجدلية، بينما أهملت العلوم الدقيقة والتقنيات الحديثة. هكذا غرق المجتمع العربي في نقاشات فكرية عقيمة حول الفلسفة والاقتصاد والسياسة، معتقدًا أن التغيير الفكري المجرد هو الذي سيقود إلى النهضة.
  5. الفرق بين عقلية المهزوم وعقلية الحر:
    الإنسان العربي – المتعلم والحاكم معًا – توقف في انتظار "التغيير الفكري" قبل أن يبدأ الفعل العملي، بينما الياباني انطلق مباشرة نحو التغيير العلمي والاقتصادي والعسكري، وترك القيم ليتعامل معها المجتمع بهدوء وبطريقته الخاصة. الفارق أن العرب عاشوا عقلية المهزوم المبهور بالآخر، بينما عاش الياباني عقلية الحر الواثق بذاته، الباحث عما ينقصه لا عما يبدله.

ختاماً

هكذا تحولت اليابان إلى إمبراطورية عالمية، بينما انحدرت الدول العربية والإسلامية إلى مستعمرات هزيلة تعيش عقدة النقص والهزيمة الحضارية. ما زلنا حتى اليوم ندفع ثمن تلك اللحظة التاريخية، لأننا اخترنا الانبهار بدل البناء، والفكر المجرد بدل العلم العملي، والانبهار بالقيم المستوردة بدل الثقة بجذورنا الحضارية.
إن درس اليابان لا يزال حاضرًا أمامنا: لا يمكن للنهضة أن تقوم إلا حين يدرك المجتمع أن قيمه متجذرة، وأن ما يحتاجه حقًا هو العلم والمعرفة وأدوات القوة، في مشروع مؤسسي جماعي لا فردي