الإصلاحات الاقتصادية في اليمن: صراع الإرادة بين رئيس الوزراء وانقسام المجلس الرئاسي

أماني باخريبة
بعد انهيار اقتصادي طويل، تشهد اليمن مؤشرات تعافٍ ملموسة تمثلت في استعادة الريال نحو 40% من قيمته مؤخرًا. هذا التحسن جاء نتيجة إصلاحات جريئة قادها البنك المركزي اليمني وحكومة بن بريك وكان أبرزها قرار مصيري بمنع شركات الصرافة من التعامل بأموال المؤسسات الحكومية، وإلزامها تحويلها مباشرة لحسابات البنك المركزي. هذا القرار مثل نقطة تحول أساسية، حيث انتقلت الكرة إلى ملعب الحكومة بشكل مباشر، ووضعها أمام اختبار حقيقي في مواجهة شبكات الفساد التي كانت تتستر وراء الحسابات الخاصة. كما أن القرار شكل ضربة قوية للممارسات التي أدت إلى تشتت الإيرادات العامة وسرقتها.
إلى جانب ذلك، شملت الإصلاحات تفعيل لجنة الاستيراد، وتشديد الرقابة على الصرافة، ومنع تهريب العملة، مما أعاد للدولة سيطرتها على مواردها ووضع أسسًا للشفافية المالية، تمثل بارقة أمل في مسار التعافي الطويل.
لكن هذه الإصلاحات، ورغم حيويتها، وُلدت في بيئة سياسية هشة، حيث إن المجلس الرئاسي يحمل في طياته بذور الانقسام منذ نشأته، إذ ضم قوى سياسية وعسكرية متباينة الأهداف والمشاريع؛ من المجلس الانتقالي الجنوبي الساعي لاستعادة دولة الجنوب، مرورًا بالقوى المتمسكة بالشرعية التقليدية، وصولاً إلى قيادات تحاول تثبيت حضورها.
هذا الخليط غير المنسجم انعكس سلبًا على أدائه، حيث عجز عن تجاوز منطق المحاصصة وصراع المصالح. ورغم أن مواجهة الحوثيين جمعت هذه الأطراف تحت مظلة واحدة، فإن الخلافات الداخلية سرعان ما طفت إلى السطح لتولّد أزمات متكررة، تهدأ حينًا وتنفجر حينًا آخر. ولم تبق تلك الخلافات محصورة في كواليس الاجتماعات المغلقة، بل تحولت في الآونة الأخيرة إلى صدامات علنية وصلت إلى حد القطيعة، ما تسبب في تعطيل اجتماعات المجلس وشلّ مهامه الأساسية طوال الأشهر الماضية. كل ذلك يعكس هشاشة التحالفات القائمة وتضارب المشاريع السياسية، ويجعل مستقبل المجلس مفتوحاً على احتمالات متعددة قد تزيد المشهد اليمني تعقيدًا وتلقي بظلالها مباشرة على أي مسعى إصلاحي.
وفي محاولة لاحتواء هذا التصدع تدخلت المملكة العربية السعودية بشكل مباشر في 18 سبتمبر 2025 لاحتواء خلاف حاد داخل مجلس القيادة الرئاسي اليمني، بعد تصاعد التوترات حول قرارات أحادية متعلقة بالتعيينات. جاء هذا التدخل عبر وساطة سياسية أسفرت عن عقد اجتماع شبه مكتمل لأعضاء المجلس في الرياض، بحضور مسؤولين سعوديين وإماراتيين، مما أدى إلى إصدار بيان رسمي أكد على التزام المجلس بمبدأ الشراكة والقيادة الجماعية مع توجيه الفريق القانوني بمراجعة كافة القرارات الصادرة منذ تشكيل المجلس.
وإلى جانب الحل السياسي دعمت السعودية جهود الاستقرار بإعلان دعم اقتصادي إضافي بقيمة 368 مليون دولار، بهدف تعزيز قدرة الحكومة اليمنية على الوفاء بالتزاماتها. ورغم نجاح هذه الإجراءات في تجميد الصراع مؤقتاً، إلا أن التقارير تشير إلى استمرار الخلافات البنيوية بين مكونات المجلس دون حل جذري، مما يعني أن رئيس الوزراء وحكومته يعملان في بيئة سياسية تفتقر إلى الغطاء الموحد والداعم، وتتسم بمحاولات مستمرة للتعطيل أو فرض الشروط على مسار الإصلاح الاقتصادي.
وفي ظل هذا المناخ المتوتر يتسم موقف الرباعية الدولية بالصرامة والضغط المتزايد، في ظل نفاد صبر المجتمع الدولي إزاء استمرار الفوضى المالية وبطء وتيرة الإصلاحات. ويكتسب الاجتماع المرتقب في الرياض أهمية استثنائية كونه يحمل طابعاً حاسماً ويُنظر إليه كإنذار نهائي، إذ ربطت الرباعية بشكل واضح بين استمرار الدعم المالي وتسجيل تقدم ملموس في مسار الإصلاحات الاقتصادية، خصوصًا فيما يتعلق بضبط الموارد وتوريدها إلى البنك المركزي في عدن، باعتبارها الخطوة الجوهرية لتحقيق الشفافية. وعليه، فإن الدور المتوقع من الرباعية هو ممارسة ضغط موجه ومضاعف ليس فقط على الحكومة المركزية، بل أيضاً على القوى النافذة داخل المجلس الرئاسي التي يُتهم بعضها بعرقلة التوريد أو الاستفادة من حالة الفساد الراهنة.
ففي الوقت الذي ترى فيه الأوساط الدولية أن إلزام السلطات المحلية والمؤسسات الحكومية بتوحيد الإيرادات يمثل الاختبار الأبرز لجدية المجلس الرئاسي والحكومة، فإن الضغط الدولي سيهدف إلى منع محاولات تعطيل رئيس الوزراء بن بريك وتمكينه من المضي قدماً، حيث أن موقف الرباعية يقوم على مبدأ الدعم المشروط بالإصلاح الفعلي على الأرض.
ومع أن التعافي الاقتصادي بدا مستقرًا خلال الفترة الماضية، إلا أن المجتمع الدولي يدرك أن التحسن الأخير في قيمة العملة، ورغم الترحيب به واعتباره خطوة فارقة، يظل تحسناً هشاً وقابلاً للانتكاس. وهذا يعيدنا إلى التساؤل الجوهري: هل ستنجح هذه الإصلاحات الاقتصادية في ظل عدم وجود إصلاح سياسي؟ يكمن التحدي الأكبر في أن الاستقرار النقدي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق عبر قرارات إدارية مؤقتة أو إجراءات ظرفية، بل يتطلب وجود مؤسسات قوية وموحدة قادرة على صياغة وتنفيذ سياسات مالية ونقدية متسقة وشفافة تُدار بعقلية الدولة لا بمنطق الفصائل والمحاصصة.
فحكومة بن بريك تخوض مواجهة مفتوحة مع منظومات واسعة من الفساد التي يقف وراءها "هوامير المال والاقتصاد"، بينما التجزئة السياسية المستمرة والانقسامات الداخلية داخل مجلس القيادة الرئاسي تزيد من هشاشة الموقف، حيث يحاول بعض الأعضاء تكريس نفوذهم عبر تعطيل القرارات أو فرض شروطهم. ومن هنا، فإن ما تحقق حتى الآن يبقى مجرد بداية هشة لمسار طويل، ومن المرجح أن يكون النجاح محدوداً وقابلًا للانتكاس ما لم يُصاحَب بتوافق وطني شامل وإصلاح سياسي يوحد القرار ويمنع تحول الإصلاحات الاقتصادية إلى رهينة للتجاذبات والصراعات الداخلية.