انتاج الذكاء الاصطناعي بين الابتكار ، والحقوق الفكرية -وجهة نظر قانونية

سامي أنـيـس الـكـثـيـري
باحث دكتوراه في القانون
شهد العالم خلال العشر السنوات الماضية طفرة غير مسبوقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث باتت هذه الأنظمة قادرة على إنتاج نصوص ، وصور ، وموسيقى ، وأفلام ، وحتى اختراعات تقنية بجودة تضاهي ، أو تفوق ما ينتجه البشر، وقد تناولت العديد من الدراسات(i) مسألة انتاج المعرفة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي ، وتوقعات المستقبل، وناقشت مآلات ذلك الإنتاج ، وبالذات في الجوانب التعليمية ، وفي الإبداع الأدبي في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي، وتطوراته ، وتحديداً في نسخه المتطورة ، ومنها الذكاء الاصطناعي التوليدي: الذي يُعدُّ من أنجح المداخل في أطر عمل التعلم الآلي، خاصةً في تطوير مفاهيم التعلم العميق، ويتفوق الذكاء الاصطناعي التوليدي على أنواع أخرى من الذكاء الاصطناعي؛ نظراً لاستخدامه لأنظمة ، ونماذج معقدة ، ومتقدمة، تُستخدم لإنتاج مخرجات جديدة بشكل متقدم، مثل نماذج ، أو رسوم ، أو نصوص، وذلك بناءً على متطلبات اللغة الطبيعية(ii).
أصبحت تلك الأنظمة الحاسوبية قادرة على أداء مهام تحاكي العمليات الذهنية البشرية، مثل: التعلم والاستنتاج ، والتخطيط ، وحل المشكلات، معتمدة في ذلك على خوارزميات ، ونماذج رياضية تمكن الآلات من تحليل البيانات ، واستخلاص الأنماط ، واتخاذ القرارات بناءً عليها(iii)، ولا شك أن ثمة تحوّلات جذرية يشهدها العالم، ونتساءل هنا: ما آثار التكنولوجيا على الإبداع؟ ما الجوانب السلبية، والإيجابية في تقاسم المهام الإبداعية للآلة مع الإنسان؟
في صيف عام 2023 م ، كان العالم يستقبل لوحة فنية رقمية حازت على جائزة مرموقة في أحد المعارض الدولية للفنون التشكيلية، قبل أن يتبين لاحقاً أنها من إنتاج برنامج ذكاء اصطناعي، وليست إبداعاً إنسانياً، وقد أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط القانونية ، والثقافية ، والفكرية حول طبيعة الإبداع، وحدود الملكية، ومن هو المبدع لهذه اللوحة: الآلة أم الإنسان؟
أما في قطاع التعليم فقد أحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً جذرياً في إنتاج المحتوى المعرفي التعليمي، وفي أساليب التدريس ، ومناهجه ، وطرائقه، فقد أصبح بالإمكان تخصيص التعليم حسب احتياجات كل طالب، وتوفير محتوى تعليمي تفاعلي، وتحليل أداء الطلاب بشكل مستمر، غير أن هذا التحول يفرض تحديات تتعلق بحقوق المؤلفين ، والمحتوى الأصلي، وخاصةً مع الاعتماد المتزايد على المحتوى المنتَج آلياً.
إن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في إنتاج المعرفة قد يؤدي إلى تراجع مهارات التفكير النقدي ، والاستقلالية لدى الطلاب مما يتطلب وضع ضوابط توازن بين الاستفادة من الذكاء الاصطناعي ، والحفاظ على جودة التعليم ، وتنمية القدرات البشرية.
إنتاج الآلة والإشكالية القانونية:
مع هذا التقدم المتسارع في الإنتاج المعرفي برزت إشكاليات قانونية عميقة تتعلق بحقوق الملكية الفكرية: من يمتلكها؟ هل يحق استغلالها تجارياً؟ وهل تحظى بالحماية القانونية؟ وفي هذه الأسطر سنشير إلى أهم الإشكاليات القانونية الجوهرية في تقاطع الابتكار الاصطناعي ، وحقوق الملكية الفكرية.
تُعدُّ مسألة الملكية الفكرية من أبرز الإشكاليات القانونية في سياق الإبداع الناتج عن الذكاء الاصطناعي، إذ لا يزال الجدل قائماً حول الجهة التي تعود لها حقوق التأليف والنشر: هل هي للمبرمج الذي طوّر الخوارزمية؟ أم للمستخدم الذي أدخل التعليمات؟ أم للجهات المالكة للمحتوى الذي تم تدريب النظام عليه؟ فمثلاً : عندما يُطلب من الذكاء الاصطناعي إنتاج قصيدة عن الفراق على نهج المتنبي، تتشابك - هنا - أطراف عديدة في العملية الإبداعية، مما يثير تساؤلات قانونية ، وأخلاقية معقدة ، ولذلك، تبرز الحاجة الملحّة إلى تطوير أطر تشريعية واضحة تُنظّم هذه الحقوق ، وتحدّد المسؤوليات، حمايةً للملكية الفكرية ، وضماناً للعدالة في استخدام التقنية(iv).
تواجه الأنظمة القانونية تحدياً أساسياً في تحديد من يملك الحقوق الفكرية لإنتاجات الذكاء الاصطناعي. فمعظم التشريعات، مثل : قانون حقوق المؤلف الأمريكي ، والأوروبي، تشترط أن يكون المؤلف شخصاً طبيعياً ، وفي حالات واقعية، مثل نظام DABUS للذكاء الاصطناعي الذي ابتكر تصميماً صناعياً، رفضت الولايات المتحدة وأوروبا منحه براءة اختراع، بينما سمحت جنوب أفريقيا بذلك، ما أثار جدلاً عالمياً حول ضرورة تحديث التشريعات(v).
من يملك إنتاج الذكاء الاصطناعي؟
تخيل كاتباً يستخدم برنامج ذكاء اصطناعي ليُنتج له مقالاً ،أو رواية. هل يُعد هذا العمل من تأليفه؟ أم من تأليف الأداة ؟ وإذا استخدم صانع أفلام برنامج Sora لصنع مشهد سينمائي بالكامل، هل يحق له حمايته قانونياً؟
الإجابة القانونية لا تزال غير موحدة ، و لكن أغلب التفسيرات ترى أن الملكية تعود إلى الشخص الذي قدّم الأوامر (Prompts)، بشرط أن تكون هذه الأوامر قد أسهمت فعلياً في صياغة النتيجة. أي أن المستخدم لا يكون مجرد متلقٍ، بل طرفًا فاعلاً في التكوين الإبداعي، لكن حتى هذا التفسير ليس كافياً، لأنه يصعب قياس "الإسهام البشري" بشكل دقيق، ولا تحقق التعريف القانوني لوصف المبتكر أو المخترع، فحقيقة كلمة مخترع كما ورد في القانون واضحة ، وصريحة في قصرها على الشخص الطبيعي فقط ، وذلك بسبب طبيعة الجهد المطلوب(vi).
أما بالنسبة للشركات، فهي - غالباً - ما تضع في شروط الاستخدام أنها تملك الحق في كل ما تنتجه أدواتها ، وهذا ما يطرح إشكالية أكبر: هل يمكن لشركة أن تحتكر أعمالاً لم تُبدعها، بل تولدت عن استخدام ملايين البيانات العامة ، والخاصة؟
إن القلق قائم - فعلاً - لدى الكثير من تأثير الذكاء الاصطناعي على المجالات المعرفية والإبداعية، غير أن البعض يرى أن هذه التكنولوجيا أداة تقنية، يمكن تطويعها، وتوظيفها لتعزيز القدرات البشرية، وفق أطر مقننة بحيث لا تطغى على الجوانب الأخلاقية، ومن هنا فالقلق المشروع يتمثل في كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي ومسؤول، وضمان عدم انتهاك حقوق الملكية الفكرية، والحفاظ على الأصالة في الأعمال الأدبية. هذا هو المهم في الأمر برمته(vii).
آفاق قانونية مقترحة
لحماية حقوق المبدعين مع دعم الابتكار يقترح خبراء القانون مجموعة من التدابير ، والمعايير للخروج من الإشكاليات(viii):
- وضع تشريعات جديدة تعترف بخصوصية الإبداع الاصطناعي ، وتفصل بين الإنتاجات الآلية، والبشرية.
- منح الحماية القانونية للأعمال الناتجة عن الذكاء الاصطناعي إذا ثبت وجود مساهمة بشرية جوهرية في عملية الإبداع ، أو التوجيه، كما هو الحال في بعض القوانين الصينية.
- إلزام الشركات بكشف مصادر البيانات التي تُدرَّب عليها الخوارزميات.
- توفير نظام تعويض للمبدعين الأصليين إذا تم استخدام أعمالهم في تدريب الذكاء الاصطناعي.
- التمييز الواضح بين المحتوى البشري ، والآلي، خاصةً في النشر ، والمجالات العلمية، والإعلامية.
- تسجيل حقوق الملكية الفكرية: تسجيل حقوق الطبع ،والنشر ،والعلامات التجارية ،وبراءات الاختراع رسمياً لضمان الحماية.
- استخدام أدوات كشف الذكاء الاصطناعي: استخدام منصات مثل Content ID (لـ YouTube) ، أو أدوات التعرف على الصور للكشف عن الاستخدام غير المصرح به للملكية الفكرية.
- إنشاء هيئات رقابية مختصة بالذكاء الاصطناعي وحقوق المؤلف.
ختاماً:
إن التعاون بين الذكاء الاصطناعي ، والبشر في إنتاج المعرفة ، والأدب ، والابتكار ، وفي مجال التأليف يثير إشكاليات قانونية بالغة، وأبرزها قضية المسؤولية عن المحتوى ، والمنتوج، فمن يُحاسب على النصوص المنتَجة؟ وهل تُنسب ملكيتها للآلة، أم للمستخدم، أم للمطوّر؟ كما يُطرح تساؤل قانوني جوهري: هل هذه النصوص ، والابتكارات ، والاختراعات المولدة عبر الذكاء ملكاً فكرياً لطرف بشري؟
كل ذلك يستدعي تشريعات ، واضحة تُحدّد المسؤولية القانونية ، والحقوق الفكرية في ظل التطور التقني المتسارع.
iالهوامش والإحالات:
() من تلك الدراسات دراسة بعنوان: "مستقبل الإبداع الأدبي العربي في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي 2023م"، للباحث أحمد مجاهد. ودراسة بعنوان: "إدارة المعرفة والذكاء الاصطناعي التوليدي: مراجعة أدب الموضوع"، للباحثة هناء علي القرني.
ii() الهادي، محمد، الذكاء الاصطناعي التوليدي ومستقبله. مجلة الجمعية المصرية لنظم المعلومات وتكنولوجيا الحاسبات، مج32، 32ع، 2023م. ص32-36.
iii() ينظر: الذكاء الاصطناعي، إعداد: مركز البحوث والدراسات، 2021م. ص5.
iv() ينظر: مجاهد، أحمد، مستقبل الإبداع الأدبي العربي في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي 2023م.
v() ينظر: فيليب إتش ألبرت، مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية. على الرابط: https://www.dwt.com/blogs/artificial-intelligence-law-advisor/2020/05/uspto-ai-inventorship-ruling
vi() ينظر: الذكاء الاصطناعي وحقوق الملكية الفكرية: أي علاقة ترابطية"، ص4
vii() المعمري، سليمان، الأدب السردي العُماني يتسم بحضور كثيف للبيئة وأسئلة الإنسان. منشور على موقع صحيفة عمان، بتاريخ: 28 يناير 2025م. الرابط: https://www.omandaily.om6
viii() ينظر: خفاجي، ديمة، إبداعات بلا مؤلف.. كيف يتعامل القانون مع إنتاج الذكاء الاصطناعي؟" 11 فبراير 2025م. منشور على موقع إرم، الرابط: https://www.erembusiness.com/opinions/nw4jxc2